فصل: قال السمرقندي في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال السمرقندي في الآيات السابقة:

قوله تعالى: {لاَ أُقْسِمُ بهذا البلد}
يعني: أقسم بهذا البلد، ولا صلة في الكلام، ومعناه أقسم برب هذا البلد الذي ولد فيه يعني: مكة {وَأَنتَ حِلٌّ بهذا البلد} يحلها يوم فتح مكة، معناه فسيحل لك هذا البلد، يعني: القتال فيه ساعة من النهار، ولم يحل لك أكثر من ذلك.
وروى عبد الملك، عن عطاء في قوله: {وَأَنتَ حِلٌّ بهذا البلد} وقال: إن الله تعالى حرم مكة، فجعلها حراماً يوم خلق السموات والأرض، وهي حرام إلى أن تقوم الساعة، ولم تحل إلا للنبي صلى الله عليه وسلم ساعة من النهار.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه دخل بالبيت يوم الفتح، ووضع يده على باب الكعبة، فقال: «لاَ إله إلاَّ الله وَحْدَهُ، صَدَقَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ، أَلاَ إنَّ الله تَعَالَى حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السموات والأَرْضَ، فَهِيَ حَرَامٌ لِي، بِحَرَامِ الله تَعَالَى إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، لَمْ تَحِلَّ لأحد قَبْلِي، وَلاَ تَحِلُّ لأحد بَعْدِي، وَلَمْ تَحِلَّ لِي إلاَّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ».
ثم قال عز وجل: {وَوَالِدٍ وَمَا ولد} {وَوَالِدٍ} يعني: آدم {وَمَا ولد}، يعني: ذريته.
ويقال: كل والد وكل مولود.
وقال عكرمة {وَوَالِدٍ} الذي يلد {وَمَا ولد} التي لم تلد من النساء والرجال {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في كبد} يعني: معتدل الخلق والقامة، فأقسم بمكة وبآدم وذريته {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان} منتصباً قائماً على رجلين.
وقال مقاتل: نزلت الآية في حارث بن عامر بن نوفل.
وروى مقسم، عن ابن عباس في قوله: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في كبد} قال: خلق كل شيء يمشي على أربع، إلا الإنسان فإنه خلق منتصباً، وهذا كقوله: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4] ويقال: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في كبد} يعني: في مشقة وتعب.
وروي عن ابن رفاعة، عن سعيد بن الحسن، عن الحسن البصري في قوله: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في كبد} قال سعيد: يكابد مضايق الدنيا وشدائد الآخرة.
وقال الحسن: لم يخلق الله تعالى خليقة، يكابد مكابدة ما يكابد ابن آدم.
وروي عن عطاء، عن ابن عباس يقول: خلق في شدة، يعني: مولده ونبات أسنانه وغير ذلك.
ويقال: معناه: ولقد خلقنا الإنسان في كبد وهي المضغة، مثل الكبد دماً غليظاً، ثم يصير مضغة.
وقال عز وجل: {أيحسب أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أحد} يعني: أيحسب الكافر، أن لن يقدر عليه الله تعالى، يعني: على أخذه وعقوبته.
{يَقول أَهْلَكْتُ مَالاً لبدا} يعني: أبا جهل بن هشام يقول: أنفقت مالاً كثيراً في عداوة محمد صلى الله عليه وسلم، فلم ينفعني ذلك، وهو أنه ضمن مالاً لمن يقتل محمداً صلى الله عليه وسلم، ويقال: أنفق مالاً يوم بدر.
ثم قال عز وجل: {أيحسب} يعني: أيظن {أَن لَّمْ يَرَهُ أحد} يعني: إن لم ير الله تعالى صنيعه فلا يعاقبه بما فعل.
ثم ذكر ما أنعم عليه ليعتبر به ويوحد فقال: {أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عينين} يعني: ألم نخلق له عينين.
يبصر بهما {وَلِسَاناً} ينطق به {وشفتين} فيضمهما.
{وهديناه النجدين} قال الثعلبي ومقاتل يعني: عرّفناه طريق الخير والشر.
وقال قتادة: يعني: طريق الهدى والضلالة، وهكذا قال ابن مسعود، رضي الله عنه، ويقال: {وهديناه النجدين} يعني: هديناه في الصغر لأحد الثديين، يعني: خلق له شفتين، ليأخذ بهما ثدي أمه.
ويقال: بينا له طريقين، طريق الدنيا، وطريق الآخرة.
وقال مجاهد: يعني: طريق السعادة، وطريق الشقاوة.
ويقال: الطاعة والمعصية، ويقال: طريق الصواب، وطريق الخطأ.
ومعناه ألم نجعل له ما يستدل به، على أن الله تعالى قادر على أن يبعثه، ويحصي عليه ما عمله.
ثم قال عز وجل: {فَلاَ اقتحم العقبة} يعني: فلا هو اقتحم العقبة، ويقال: فلم يقتحم العقبة، ويقال: معناه فهل تجاوز العقبة، الذي يزعم أنه أنفق مالاً كثيراً في عداوة محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما أراد بالعقبة، الصراط.
كما روي عن أبي ذر الغفاري أنه قال: إنه بين أيدينا عقبة كؤود، لا ينجو منها إلاَّ كل مخف.
وكما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه بكى حين حضرته الوفاة، قيل له: وما يبكيك؟ قال: بُعْدَ المفازة، وقلة الزاد، وضعف النفس، وعقبة كؤد، والهبوط منها إلى الجنة أو إلى النار.
ثم قال عز وجل: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا العقبة} يعني: ما أدراك بم إذا يكون مجاوزة الصراط.
ثم قال: {فَكُّ رقبة} يعني: اقتحام العقبة، هو فك الرقبة يعني: إنما يجاوز الصراط.
{أَوْ إِطْعَامٌ في يَوْمٍ ذِى مسغبة} يعني: يجاوز الصراط بإحكام في يوم ذي مجاعة.
قرأ أبو عمرو، وابن كثير، والكسائي {فَكُّ رقبة}، بنصب الكاف والهاء، وأطعم بنصب الهمزة بغير الألف، والباقون {فَكُّ رقبة} بضم الكاف، وكسر الهاء {أَوْ إِطْعَامٌ} بكسر الهمزة، وإثبات الألف.
فمن قرأ بالنصب فهو محمول على المعنى، معناه فلا فَكَّ رقبة، ولا أطعمَ في يوم ذي مسغبة، فكيف يجاوز العقبة، ومن قرأ بالضم فمعناه اقتحامُ العقبة، فكُّ رقبة يعني: مجاوزة العقبة بعتق رقبة، وبإطعام في يوم ذي مسغبة، أي: مجاعة.
ثم بين لهم لمن يُطْعَم الطعام فقال: {يَتِيماً ذَا مقربة} يعني: يتيماً بينك وبينه قرابة {أَوْ مِسْكِيناً ذَا متربة} يعني: مسكيناً لا شيء له لاصق في التراب من الجهد، فهذا الإحسان مجاوزة العقبة {ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين ءامَنُواْ} يعني: من صنع هذا الإحسان، يكون مؤمناً، لأنه لا يتقبل عملاً من الأعمال بغير إيمان.
ويقال: معناه ثم يثبت على إيمانه.
ثم قال: {وَتَوَاصَوْاْ بالصبر} يعني: تحاشوا أنفسهم بالصبر، وتحاشوا بعضهم بعضاً بالصبر على طاعة الله تعالى، وبالصبر على المكروهات، لأنه روي في الخبر، أن الجنة حقت بالكاره.
ثم قال تعالى: {وَتَوَاصَوْاْ بالمرحمة} يعني: تحاشوا بالتراحم بعضهم على بعض، يعني: بالمرحمة على أنفسهم، على غيرهم.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «مَنْ يَرْحَمِ النَّاسَ، يَرْحَمُهُ الله تعالى».
ثم قال: {أولئك أصحاب الميمنة} يعني: أهل التراحم والتواصل، هم أصحاب الميمنة، الذين يُعْطَوْن كتابهم بأيمانهم {والذين كَفَرُواْ بآياتنا} يعني: بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن، ويقال: كفروا بدلائل الله تعالى.
{هُمْ أصحاب المشئمة} يعني: يعطون كتابهم بشمالهم {عَلَيْهِمْ نَارٌ مؤصدة} يعني: أُدْخِلُوا في النار، وأُطْبِقَتْ عليهم، لا يخرج منها غم، ولا يدخل فيها روح آخر الأبد.
قرأ أبو عمرو، وعاصم في رواية حفص، وحمزة {عَلَيْهِمْ نَارٌ} بالهمزة، والباقون بغير همزة، وهما لغتان.
يقال: أصدت وأوصدت الباب، وأوصدته إذا أطبقته والله أعلم. اهـ.

.قال الثعلبي:

سورة البلد:
{لاَ أُقْسِمُ} يعني أقسم {بهذا البلد} يعني مكّة {وَأَنتَ} يا محمّد {حِلٌّ} حلال {بهذا البلد} تصنع ما تريد من القتل والأسر، وذلك أنّ الله سبحانه أحلّ لنبيّه صلى الله عليه وسلم مكّة يوم الفتح حتّى قاتل وقتل، وأحلّ ما شاء وحرم ما شاء، وقتل ابن خطل وهو متعلّق بأستار الكعبة، ومقيّس بن صبابة وغيرهما ثمّ قال: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن» فأحلّ دم ابن خطل وأصحابه وحرّم دار أبي سفيان، ثمّ قال صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله حرّم مكّة يوم خلق السماوات والأرض، فهي حرام إلى أن تقوم الساعة، لم تحلّ لأحد قبلي ولا يحلّ لأحد بعدي ولم يحلّ لي إلاّ ساعة من نهار، فلا يعضد شجرها ولا نختلي خلالها ولا نفر صيدها ولا يحلّ لقطتها إلاّ المنشد».
فقال العبّاس: يا رسول الله إلاّ الأذخر فإنّه لقيوتنا وقتورنا وبيوتنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إلاّ الأذخر».
وقال شرحبيل بن سعد: معنى قوله: {وَأَنتَ حِلٌّ بهذا البلد} قال: يحرّمون أن تقتلوا بها صيداً أو يعضدوا بها شجرة، ويستحلّون إخراجك وقتلك.
{وَوَالِدٍ وَمَا ولد} قال عكرمة وسعيد ابن جبير: (الوالد) الذي يولد له (وما ولد) العاقر الذي لا يولد له، وروياه عن ابن عبّاس وعلي، هذا القول تكون ما بقيا، وهو يُعبد ولا تصحّ إلاّ بإضمار. عطية عنه: الوالد وولده. مجاهد وقتادة والضحّاك وأبو صالح: ووالد آدم وما ولد ولده.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا برهان بن علي قال: حدّثنا عبد الله بن الوليد العكبري قال: حدّثنا محمد بن موسى الحرشي قال: حدّثنا جعفر بن سليمان قال: سمعت أبا عمران الخولي قرأ: {وَوَالِدٌ وَمَا ولد} قال إبراهيم وما ولد.
{لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي كبد} أي نصّب. عن الوالبي عن ابن عبّاس الحسن: يكابد مصايب الدنيا وشدائد الآخرة. قتادة: في مشقّة فلا يلقاه إلاّ يكابد أمر الدنيا والآخرة. سعيد بن جبير: في شدّة، وعن الحسن أيضاً: يكابد الشكر على السراء، والصبر على الضرّاء فلا يخلو منهما. عطية عن ابن عبّاس: في شدّة خلق حمله وولادته ورضاعه وفصاله ومعاشه وحياته وموته. عمرو بن دينار عنه: نبات أسنانه. يمان: لم يخلق الله خلقاً يكابد ما يكابد ابن آدم وهو مع ذلك أضعف الخلق، وعن سعيد بن جبير أيضاً في ضيق معيشته. ابن كيسان: المكابدة مقاساة الأمر وركوب معظمه، وأصله الشدّة وهو من الكبد.
قال لبيد:
عين هلا بكيت اربد ** إذ قمنا وقام الخصوم في كبد

وقال مجاهد وإبراهيم وعكرمة وعبد الله بن شدّاد وعطية والضحّاك: يعني منتصباً قائماً معتدل القامة، وهي رواية مقسم عن ابن عبّاس قال: خلق كلّ شيء يمشي على الأرض على أربعة إلاّ الإنسان، فإنّه خُلق منتصباً قائماً على رجلين.
مقاتل: في قوّة نزلت في ابن الاسدين واسمه أسيد بن كلده بن أسيد بن خلف، وكان شديداً قويّاً يضع الادم العكاظي تحت قدميه، فيقول: من أزالني عنه فله كذا وكذا، فلا يطاق أن تنزع من تحت قدميه إلاّ قطعاً ويبقى موضع قدمه، ويقال: هو شدّة الأمر والنهي والثواب والعقاب، وقال ابن زيد: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان} يعني آدم في كبد أي وسط السماء وذلك حين رفع إلى الجنّة. أبو بكر الوراق: يعني لا يدرك هواه ولا يبلغ مناه. خصيف في معناه ومقاساة وانتقال أحوال نطفة ثمّ علقة إلى آخر تمام الخلق. ابن كيسان: منتصباً رأسه فإذا أذن الله سبحانه في إخراجه انقلب رأسه إلى رجلي أُمّه، وقيل: جريء القلب غليظ الكبد مع ضعف خلقته ومهانة مادّته. جعفر: أي في بلاء ومحنة. ابن عطاء: في ظلمة وجهل.
محمد بن علي الترمذي: مضيّعاً لما يعنيه مشتغلاً بما لا يعنيه.
{أيحسب} يعني بالأشدين من قوّته.
{أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أحد} يعني الله سبحانه وتعالى، وقيل: هو الوليد بن المغيرة. أخبرني أبو الضحى عن ابن عبّاس.
{يَقول أَهْلَكْتُ} أنفقت {مَالاً لبدا} بعضه على بعض، وهو من التلبّد في عداوة محمّد.
وقال مقاتل: نزلت في الحرث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف، وذلك أنّه أذنب ذنباً فاستفتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره أن يكفّر وقال: لقد ذهب مالي في الكفّارات والنفقات منذ دخلت في دين محمّد.
واختلف القراء في قوله: {لبدا} فقرأ أبو جعفر بتشديد الباء على جمع لابد وراكع.
وقرأ مجاهد بضمّ اللام والباء مخفّفاً كقولك: أمر بكر ورجل جنب.
وقرأ الباقون بضمّ اللام وفتح الباء مخفّفين، ولها وجهان: أحدهما جمع لبدة، والثاني على الواحد، مثل قُثم وحُطم وليس بمعدول.
{أيحسب أَن لَّمْ يَرَهُ أحد} يعني الله سبحانه وقيل: محمّد عليه السلام فيعلم مقدار نفقته، وكان كاذباً لم ينفق جميع ما قال، وقال سعيد بن جبير وقتادة: أيظنُّ أن لم يره أحد فيسأله عن هذا المال من أين اكتسبه وأين أنفقه؟
أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا عمر بن أحمد بن القاسم النهاوندي قال: حدّثني الهيثم بن خلف الدوري قال: حدّثني محمد بن يزيد بن سليمان مولى بني هاشم قال: حدّثنا حسين بن الحسين يعني الأشقر قال: حدّثنا هشام بن شبر عن أبي هاشم عن مخالد عن ابن عبّاس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزول قدما العبد يوم القيامة حتّى يُسئل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه م إذا عمل فيه وعن حبّنا أهل البيت».
قال ابن خرجة: ما سمعت هذا الحديث إلاّ من الهيثم.
وأخبرنا الحسين قال: أخبرنا أبو الحسن على بن هارون بن محمد قال: حدّثنا موسى بن هارون بن عبد الله قال: حدّثنا أبو الربيع الزهراني قال: حدّثنا نعيم بن ميسرة، قال: أخبرني عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز قال: أخبرني رجل من بني عامر عن أبيه قال: صلّيت خلف النبيّ صلّى الله عليه فسمعته يقول: {أيحسب أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أحد} {أيحسب أَن لَّمْ يَرَهُ أحد} يعني بكسر السين.
{أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عينين وَلِسَاناً وشفتين} قال قتادة: نعم والله متظاهرة لقهرك بها كتماً لشكر.
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا أبو القاسم عبد الله بن عامر السمرقندي قال: حدّثنا عمر بن يحيى قال: حدّثنا جيغويه قال: حدّثنا صالح بن محمد قال: حدّثنا عبد الحميد المدني عن أبي حازم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ابن آدم إنْ نازعك لسانك فيما حرّمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقين فأطبق، وإن نازعك بصرك إلى بعض ما حرّمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقين فأطبق، وإن نازعك فرجك إلى ما حرّمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقين فأطبق».
{وَهَدَيْنَاهُ النجدين} قال أكثر المفسّرين: يعني بيّنا له طريق الخير والشرّ والحقّ والباطل والهدى والضلالة كقوله: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السبيل إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان: 3].
ودليل هذا التأويل ما أخبرني عبد الله بن حامد إجازة قال: أخبرني أحمد بن يحيى قال: حدّثنا محمّد بن يحيى قال: حدّثنا عبد الرحمن بن مهدي عن قرّة بن خالد عن الحسن قال: قال رسول الله صلّى الله عليه: «إنّما هما نجدان نجد الخير ونجد الشرّ، فما يجعل نجد الشرّ أحبّ إليكم من نجد الخير».
وأخبرنا محمّد بن عبد الله بن حمدون قال: أخبرنا مكّي قال: حدّثنا عبد الرحمن بن بشر قال: حدّثنا عبد الرزاق قال: حدّثنا أبي عن عمرو بن أبي بكر القرشي عن محمّد بن كعب عن ابن عبّاس في قوله سبحانه: {وَهَدَيْنَاهُ النجدين} قال: الثديين، وإليه ذهب سعيد بن المسيب والضحّاك، والنجد الطريق في ارتفاع.
قال الشاعر:
غداة غدوا فسالك بطن نخلة ** وآخر منهم جازع نجد كبكب

{فَلاَ اقتحم العقبة} يعني فلم يجاوز بهذا الإنسان العقبة فيأمر.
قال الفراء أفرد قوله: {فَلاَ اقتحم العقبة} بذكر لا مرّة واحدة، والعرب لا تكاد تفرد لا مع الفعل الماضي، وفي مثل هذا الموضع حتّى يعيدوها عليه في كلام آخر، كما قال: {فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صلى} [القيامة: 31] {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 38]، وانّما فعل ذلك كذلك في هذا الموضع استغناء بدلالة آخر الكلام على معناه من إعادتها مرّة واحدة، وذلك أنّه فسّر اقتحام العقبة بأشياء فقال: {فَكُّ رقبة} الآية، فكأنه قال في أوّل الكلام فلا فعل ذا ولا ذا ولا ذا.
وقال بعضهم: معنى الكلام الاستفهام، تقديره أفلا اقتحم العقبة، وإليه ذهب ابن زيد وجماعة من المفسِّرين، يقول: فهلاّ أنفق ماله في فك الرقاب وإطعام السغبان ليتجاوز بها العقبة ويكون خيراً له من إنفاقه على عداوة محمّد، ويقال: إنّه شبّه عظم الذنب وثقلها على مرتكبها بعقبة، فإذا أعتق رقبة وعمل صالحاً كان مثله مثل من اقتحم تلك العقبة، وهي الذنوب حتّى تذهب وتذوب، كمن يقتحم عقبة فيستوي عليها ونحوها.
وذكر عن ابن عمران: أنّ هذه العقبة جبل في جهنّم، وقال كعب: هي سبعون دركة في جهنّم، وقال الحسن وقتادة: هي عقبة شديدة في النار دون الجسر فاقتحموها بطاعة الله سبحانه، وقال مجاهد والضحّاك والكلبي: هي الصراط يضرب على جهنّم كحدّ السيف مسيرة ثلاثة آلاف سهلاً وصعوداً وهبوطاً، وأنّ لجنبتيه كلاليب وخطاطيف كأنّها شوك السعدان، فناج مسلم وناج مخدوس ومكردس في النار منكوس، فمن الناس من يمرّ عليه كالبرق الخاطف، ومنهم من يمرّ عليه كالريح العاصف، ومنهم من يمرّ عليه كالفارس، ومنهم من يمرّ عليه كالرجل يسير، ومنهم من يزحف زحفاً، ومنهم الزالّون والزالاّت، ومنهم من يكردس في النار، واقتحامه على المؤمن كما بين صلاة العصر إلى العشاء.
وقال قتادة: هذا مثلٌ ضربه الله سبحانه يقول: إنّ المعتق والمطعم تقاحم نفسه وشيطانه مثل من يتلكّف صعود العقبة، وقال ابن زيد يقول: فهلاّ سلك الطريق التي فيها النجاة والخير ثمّ بيّن ما هي فقال: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا العقبة} قال سفيان بن عينية: كلّ شيء قال: {وَمَآ أَدْرَاكَ} فإنّه أخبره به، وما قال: (وما يدريك) فإنّه لم يخبر به.
{فَكُّ رقبة} فمن أعتق رقبة كان فداه من النار.
قرأ أبو رجاء والحسن وابن كثير وأبو عمرو والكسائي بنصب الكاف والميم على الفعل كقوله: {ثمّ كان}.
وقرأ غيرهم بالإضافة على الاسم واختاره أبو عبيدة وأبو حاتم لأنّه تفسير لقوله: {وما أدراك}، ثم أخبر ما هي فقال: {فَكُّ رقبة}.
{أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مسغبة} مجاعة.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا عبيد الله بن أبي سمرة قال: حدّثنا محمّد بن عبد الله المستعيني قال: حدّثنا على بن الحسين البصري قال: حدّثنا حجّاج قال: حدّثنا جرير بن حازم قال: سمعت الحسن وأبا رجاء يقرآن: {فِي يَوْمٍ ذِي مسغبة يَتِيماً ذَا مقربة أَوْ مِسْكِيناً ذَا متربة} قد لصق بالتراب من الفقر فليس له مأوى إلاّ التراب.
وسمعت أبا القاسم الحلبي يقول: سمعت أبا حامد الخازرجي يقول: المتربة هاهنا من التربة وهي شدّة الحال، وأنشد الهذلي:
وكنّا إذا ما الضيف حلّ بأرضنا ** سفكنا دماء البدْن في تربة المال

أخبرني الحسن قال: حدّثنا عمر بن أحمد بن القاسم النهاوندي قال: حدّثنا موسى بن إسحاق الأنصاري قال: حدّثنا عبد الحميد بن صالح قال: حدّثنا عيسى بن عبد الرحمن عن طلحة بن مصرف عن عبد الرحمن بن عوسجة عن البراء بن عازب قال: جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله علّمني عملاً يدخلني الجنّة فقال: «لئن اقصرت الخطبة لقد أعرضت المسألة اعتق النسمة وفكّ الرقبة»، قال: أوليسا واحدًا؟ قال: «لا، عتق النسمة أن تفرد بعتقها، وفكّ الرقبة أن تعين في ثمنها، والمنحة الوكوف والفيء على ذي الرحم الظالم، فإن لم تطق ذاك فاطعم الجائع واسق الظمآن، وأمر بالمعروف وانه عن المنكر، فإن لم تطق ذاك فكفّ لسانك إلاّ من خير».
{ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين آمَنُواْ} قيل: ثمّ بمعنى الواو {وَتَوَاصَوْاْ} أوصى بعضهم بعضاً {بالصبر وَتَوَاصَوْاْ بالمرحمة} برحمة الناس.
{أولئك أَصْحَابُ الميمنة والذين كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ المشأمة عَلَيْهِمْ نَارٌ مؤصدة} قرأ أبو عمرو وعيسى وحمزة ويعقوب بالهمزة ههنا، وفي سورة الهُمزة وغيرهم بلا همزة، وهما لغتان. المطبقة، قال الفراء وأبو عبيدة يقال: أصدت وأوصدت إذا أطبقت وقيل: معنى الهمزة المطبقة وغير الهمزة المغلقة، ومنه قيل للباب: وصيد. اهـ.